جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي مركز غزة للدراسات والاستراتيجيات

المجتمع الفلسطيني بين التخلف والرقي

المجتمع الفلسطيني بين التخلف والرقي
طباعة تكبير الخط تصغير الخط

المجتمع الفلسطيني بين التخلف والرقي ([1])

حينما يوصف مجتمعاً ما بانه مجتمعاً راقياً أو متخلفاً يجدر بنا أن نبحث أولاً في مدلولات الألفاظ لكي نُقَيِّم الحالة بناء على المعنى الحقيقي للفظ، ثم بالوصف والتحليل والقياس نستكشف حقيقة أي مجتمع وهل ينطبق عليه الوصف الذي وُصف به أم لا؟

ثم بعد أن نقف على حقيقة اللفظ والوصف ينبغي علينا أن نتخذ خطوات وإجراءات حيال ما توصلنا إليه من علم ومعرفة؟ فالمعرفة بلا هدف كالشجرة بلا ثمر، والعلم إن لم ينقلك إلى الرفعة والسمو فسينقلك على التخلف والانحدار.

والتمييز بين العالِم والجاهل يكون بالتطبيق والممارسة والسلوك الذي يظهر على كل منهما، فالعالِم هو الذي يَعْلم، ويَعمل بما يعلم، أما الجاهل فلا يعلَم، ولا يعلَم ما يعَمل، ولا يعلَم أنه لا يَعلم، فالأول يزن تصرفاته بميزان الشرع والعلم والقانون والأخلاق، أما الآخرين فــــــ (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) ([2])، فهم لا يعيشون حقيقة العلم والمعرفة واقعاً في حياتهم.

فلفظة رُقِيّ في اللغة تعني الصُعود للقمة، يقال رَقِيَ الجَبَلَ: تَسَلَّقَهُ، عَلاهُ، صَعِدَهُ; ورَقِيَ إلى القِمَّةِ: اِرْتَفَعَ إِلَيْها، ورقِي الشَّخصُ في السُّلَّم: علاه، صعِده درجةً درجة، ورقِي في العلم: صَعِدَ فيهِ دَرَجَةً دَرَجَةً، والطَّبقة الرَّاقية: الطَّبقة العُليا في المجتمع.

إذاً لفظة الارتقاء تُشير الى السُفل والعُلو المكاني، ويستعار بها للسُفل والعُلو المعنوي فيقال لمن انتقل من نقص الى كمال انه ارتقى.

أما تَخَلَّفَ: فهي (فعل) عن تخلَّفَ يتخلَّف تخلُّفًا، فهو مُتخلِّف، والمفعول مُتخَّلف عنه.

وتَخَلَّفَ عَنِ القَافِلَةِ: بَقِيَ وَرَاءَهَا، خَلْفَهَا، وتَخَلَّفَ عَنْ حُضُورِ الَحَفْلَةِ: لَمْ يَحْضُرْهَا، وتَخَلَّفَ الطِّفْلُ: يعني بَطُؤَ نُمُوُّ عَقْلِهِ، وتخلَّف الطَّالبُ في الدِّراسة: أي رسَب في الامتحان، وامتحانات المتخلّفين: هي امتحانات دور ثان للراسبين في بعض الموادّ.

وتخلَّف الشَّعْبُ: تأخّر، تجاوزته الأمم في مضمار الحضارة، وهذا ما تعاني منه معظم الدُّول النَّامية من الفقر والتخلُّف ([3]).

بعد ان تعرفنا على مدلولات الألفاظ، تعالوا بنا نقف عند مظاهر التخلف والرقي في المجتمع، وهذا يحتم علينا بالضرورة أن نتعرف أولاً على معنى ومفهوم المجتمع؟ وما هي مكوناته الأساسية؟

فالمجتمع في اللغة مصطلح مشتق من الفعل جَمَع، وهي عكس كلمة فَرَّق، كما أنّها مُشتقّة على وزن مُفتَعَل، وتعني مكان الاجتماع، والمعنى الذي يُقصد بهذه الكلمة هو جماعة من الناس، وهناك عدة تعريفات للمجتمع من المنظور السياسيّ، والاجتماعيّ، والنفسيّ وغيرها، ويمكن تعريفه اصطلاحاً بأنّه عدد كبير من الأفراد المستقرّين الذين تجمعهم روابط اجتماعية ومصالح مشتركة ترافقها أنظمة تهدف إلى ضبط سلوكهم ويكونون تحت رعاية السلطة ([4]).

ويتضح لنا من التعريف أن الفرد هو العنصر الأساسي في المجتمع، وهو يمثل المصدر الوحيد لأهداف المجتمع ويحمل كل الصفات السلوكية للمجتمع وخبراته، ويستمد منه المجتمع القُوى اللازمة والمنظِمة لحركته والمتمثلة في القادة والعلماء واليد العاملة ([5]).

وبهذا نتوصل إلى حقيقة مفادها أن رُقِيّ المجتمعات او انحطاطها يتوقف على مدى رُقِيّ الأفراد الذين يعيشون في الدولة او انحطاطهم، فالمجتمع المتحضر، أفراده متحضرون، والعكس، لو كان متخلفاً، ولكن!! على من تقع مسؤولية تخلف المجتمعات وانحطاطها؟!

المسئولية تقع بالدرجة الأولى على السلطة الحاكمة في المجتمع، لأنها الجهة المسئولة عن تطبيق القانون، وهي المسؤولة عن تهذيب الأفراد وتعليمهم وتطويرهم وتثقيفهم، وكما أن انحطاط المجتمع يدل على انحطاط أفراده، فهو أيضاً يدل على انحطاط الجهة الحاكمة لأنها المسؤولة عن هذا المجتمع.

وثمة سؤال آخر هو: هل هناك تعاون من أجل الرُقِي بالمجتمع بين السلطة الحاكمة، وأفراد المجتمع؟! والحقيقة أنه لأجل تحقيق مبدأ التعاون لابد أن يتحقق مطلبين اثنين هما: (الوفاء بالعقود، و عدم الاعتداء)، وقد جاء هذين المطلبين في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۗ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ([6]).

وفي حال عدم توفر هذين المطلبين فلن يكون هناك تعاون أبداً بين السلطة الحاكمة وأفراد المجتمع، فلا تعاون مع عدم الوفاء بالعهود، ولا تعاون مع الاعتداء والظلم ([7])، والمطلبين لابد ان يتحققا في كلا الطرفين، وفي حال إخلال طرف بواجبه وجب على الطرف الآخر محاسبته، فلا أحد في الإسلام فوق القانون، لأن القانون في الإسلام هو قانون الله عز وجل، ونحن مسلمون.

ومن مظاهر المجتمعات الراقية أنها مجتمعات منظمة، مجتمعات متحابة، مجتمعات يسودها القانون، مجتمعات متعاونة، مجتمعات لها قيم ومبادئ وأخلاق سامية، مجتمعات نظيفة، مجتمعات عفيفة، مجتمعات محافظة، مجتمعات واعية.. الخ

فأين نحن من تلك المظاهر؟!!!!!

لا أريد أن أفصل كثيراً في الظواهر التي تتعارض مع الحضارة والرقي، كظاهرة القمامة المنتشرة في الشوارع، وظاهرة روث الحيوانات في الطرقات، ولا أريد التحدث عن علاقات الناس مع بعضهم البعض، ولا عن حقوق الأبناء والآباء والجيران والموظفين، فضلاً عن حق الله.

أريد فقط أن أُلقى الضوء على ظاهرة مزعجة منتشرة في شوارعنا، وهي ظاهرة أقل ما يقال فيها، انها استخفاف واستحقار واستغفال لأفراد المجتمع، ولا مبالاة من جهات تنفيذ القانون، فيجتمع فيها عدم الوفاء بالعقود والعهود من قبل السلطة الحاكمة بتطبيق القانون، وفيها الاعتداء على حقوق الآخرين من قبل بعض الأفراد الجهلة المُفْرِطِين في الغباء أو الاستغباء.

الظاهرة هي ظاهرة استخدام مكبرات الصوت من قبل البائعين المتجولين، ومن قبل موزعي الغاز، ومن قبل حفلات الأفراح الليلية، ومن قبل حملات التبرعات في بعض المساجد، بالإضافة إلى زامور السيارات في الطرقات.

ألا يعلم هؤلاء أن هذه الظواهر فيها تعدي على حقوق المواطنين بالراحة في أماكن سكنهم، وفيها ازعاج وتشويش للمرضى والطلاب، والأطفال وكبار السن، الا يعلم هؤلاء ان هذه جنحة يعاقب مرتكبها بالسجن لمدة سنة كاملة، فقد جاء في قانون العقوبات الفلسطيني رقم 74 لسنة 1936، في المادة (200) تحت عنوان (الحِرف والصناعات المضرة) ما نصه:

(كل من أحدث ضجيجاً عالياً أو سبب روائح كريهة او مضرة بالصحة اثناء تعاطيه حرفته أو صنعته أو بغير ذلك من الدواعي في أماكن وظروف تؤدي إلى إزعاج عدد وافر من الناس أثناء مباشرتهم حقوقهم العادية، يعاقب كأنه أتى مكرهة عامة)، والمكاره العامة تعتبر جنحة في القانون ويعاقب مرتكبها بالحبس لمدة سنة واحدة.

والسؤال الآن: أين نحن من تطبيق القانون في ابسط حدوده؟ ولماذا يسكت الناس عن تلك الظاهرة؟ أليس لهم حق في المطالبة بالراحة في بيوتهم؟ أم أننا وصلنا إلى حالة لا نستطيع فيها ولا نتجرأ أن نطالب بأبسط حقوقنا، فكيف بنا نريد أن ننتزع حقنا المسلوب في فلسطين الجريحة.

إنني من خلال هذا المقالة أوجه النداء للجهات المختصة بالإيقاف الفوري لتلك الظاهرة ومعاقبة كل من يخالف القانون فيها، حتى نكون شعباً يليق بفلسطين، لأن فلسطين لن تتحرر وهذه الظواهر السلبية موجودة في مجتمعنا، والخاسر هو نحن (الشعب الفلسطيني).

 

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين

 

 

 

‏ 

 


[1] - ما دفعني لكتابة هذه المقالة هو بعض الظواهر الغريبة في مجتمعنا الفلسطيني الغزي، والتي تتزايد يوماً بعد يوم، وهي ظواهر تنم عن جهل وتخلف، يجب أن يتم معالجتها.

[2] - النحل:21.

[3] - أنظر معجم المعاني الجامع (معنى كلمة رقي وتخلف) https://www.almaany.com.

[4] - انظر موقع (موضوع، تعريف المجتمع لغة واصطلاحاً، https://mawdoo3.com/%D8%AA%D).

[5] - قراعة، أسامة صلاح، مكونات المجتمع الأساسية، https://www.manhal.net/art/s/3868/).

[6] - المائدة:2.

[7] - (أنظر تفسير القرطبي، سورة المائدة، الآية 1-2).