في ذكرى الرحيل... طارق عبدالفتاح دخان

في ذكرى الرحيل...  طارق عبدالفتاح دخان
طباعة تكبير الخط تصغير الخط

في ذكرى الرحيل...
 الشهيد طارق عبدالفتاح دخان

بقلم د. محمد إبراهيم المدهون

كانت الوالدة الحنون تحتضن ولدها الأول وهي تنظر إليه بإعجاب وحب عميق وتبتسم لشقرته الخشنة ... وتتمنى من قلبها أن ينشأ نشأة إسلامية عميقة ... فتحدثه قصص الأنبياء والصالحين ... وقصص الجنة وما فيها من خيرات وثمار وفواكه ... ويتساءل الطفل الذكي ببراءة ... هل يوجد فــي الجنة شــــــاي ؟  " فقد كان يحب الشاي كثيراً " ، وتضحك الأم وتظل تضحك ... وتواصل عملية التربيـــــة العميقـــــة لولدها استجابة لأمر الله وتوصيات والده الشيــــخ (عبد الفتاح دخان) .
 
وتعود بها الذكريات يوم تزوجها المربي الفاضل (أبو أسامة) وقبلت أن تكون زوجة لهذا الرجل المسلم ... وتذكر يوم نقلها أبو أسامة من النصيرات إلى المستشفى المعمداني في غـزة كي تضع وليدها الأول ، فاليوم الخامس من شهر أكتوبر في عام 1969م مسطر في ذاكرة الأم بأرقام بيضاء وهو اليوم الذي أنعم الله عليها بغلام تقـر به عينها...
 
وكم كانت فرحة (أبي أسامة) بهذا الغلام رغم وجود خمسة من الأبناء قبله من زوجته الأولـى، إلا أن الوليد الجديد احتل موقعاً خاصاً فى قلب الوالد و ربما لمح الرجل صاحب البصيرة فى عيني ولده بريق العودة إلى (عراق سويدان) ... تلك القرية التى هاجر منها يوم داهمها التتار الجدد ، وربما هذا المزيج من الشعور بالفرح والرغبة في العودة اللذين يلمع بريقهما من عيني (أبو أسامة) جعلاه يختار اسم (طارق) لولده الجديد حيث يقبع اسم (طارق بن زياد) الفاتح الإسلامي العظيم ، ولعل الفتح يكون على يدي (طارق) الوليد الجديد .
 
نشأ طارق وترعرع في هذه الحياة الإسلامية ، فوالده من الرواد الأوائل في (جماعة الإخوان المسلمين) في قطاع غزة ، وأحد مؤسسي (حركة المقاومة الإسلامية - حماس) ، يغدق عليه العلم والمعرفة ، ووالدته تحوطه بحنانها وعطائها وحسن تربيتها ، فنشأ طارق رقيق الإحساس، مرهف الشعور ، يعشق سماع القصص ، ساهم ذلك في نشأة خيال واسع وعبقرية تصويرية بالغة ... هذه النشأة الإسلامية الصافية خلقت من طارق ذاك الشبل الملتصق ببيت الله ... شخصية قوية تمتلك قرارها ، وتحدد مستقبلها ، ويعتمد عليها في كل موقف وحين ، ويكتسب جرأة مبكرة جعلته ينطلق وهو في الثالثة عشرة من عمره في منتصف الليل بعد أن حمل عصا ليطارد قاذفي الحجارة على البيوت الآمنة في منتصف الليل غير عابىء بالمخاطر التى تواجهه ، وكان ذلك قبل اندلاع الانتفاضة المباركة . فقد كان طارق مزيجاً غريباً من المواهب ، فحيثما التفت وجدت طارق كالســـــراج المنير .
 
ففي ميدان الرياضة لمع (طارق) في ملعب (كرة القدم) ... وفي لعبة (تنس الطاولة) كان أبرز لاعبي فريق الجمعيـــــة الإسلاميـــــة في النصيــرات ... إضافة إلى ممارسة رياضة (الننشاكو) ، حيث كان من السباقين إلى ممارستها واتقانها .
 
وفي ميدان الفن رأيت الفتى اليافع عضواً في الفرقة المسرحية التابعة للجمعية الإسلامية وأحد أعضاء فرقة النشيد الإسلامي . وإذا تلفت إلى الأدب شاهدت طارق شاعراً وكاتباً للقصة ، فتراه غارقاً في كتابة الرسائل لإخوانه ويخرجها في أجمل صورة ... حتى غدا لطارق كتابات عدة ... وكان أبرز وأجمل ما كتب طارق في أشهر مطاردته القليلة ... وكان جل كتابته عن العطاء والفراق ...

وكان من أخر كلماته .. " وقد حان الرحيل ... وها هي ساعة الصفر تقترب شيئاً فشيئاً ، ولكن هل سنقول وداعاً ... أظن بأنه لا ، ولكننا سنقول إلى اللقاء ... أخي انظر إلى هذه الحياة التعيســة اليـــــــوم ألقاك وغداً أفارقك ... اليوم أعرف أنني سأغادر ولا أملك البقاء ... إن يوم الفــــــراق أصعب يوم ليتنـــــي مت قبل يوم الفراق ، وهكذا أيها الأحبة نفارقكم ولا ندري متــــــى نلقاكــــم " .هذا عدا الثقافــــــة الواسعــــة والإلمام الكبيــــر بقضايا المسلمين ...
هذه المواهب لم تكن لتمر مر الكرام أمام نظرة (جماعة الإخوان المسلمين) فقبل أن ينهي طارق دراسته الثانوية أصبح عضواً عاملاً في هذه الجماعة ليمثل استمراراً لوالده في العطاء لدعوة السماء .

وما كاد طارق ينهي دراسته في معهد الأزهر بغزة ويلتحق بكلية الآداب بالجامعة الإسلامية بغزة حتى انطلقت الإنتفاضة الإسلامية المباركة حيث كان (أبو حذيفة) ابرز جند حركة المقاومة الإسلامية - حماس - منذ اليوم الأول لإنطلاقها يعمل بكل جد واجتهاد على تنفيذ فعالياتها وتوزيع بياناتها ... هذا عدا المواجهات التى كان طارق بارزاً في أدائها ، وكان اسم طارق يتردد بأنه من أمهر رماة الحجارة، وكانت ذكرى (الإسراء والمعراج) في عام 1988م الأبرز حيث دعت حماس للمواجهة والتصعيد ، وحدثت مواجهات عارمة حاصرت فيها قوات الاحتــــلال المسجـــــد الجنوبــــــي بالنصيرات ، وكان طارق أحد المدافعين الأشـــاوس حتى انسحبت قوات الاحتلال .
 
والانتفاضة المباركة بلورت شخصية طارق بشكل جهادي متميز ، حيث بدت الجرأة إحدى أبرز المعالم لشخصية طارق ، إضافة إلى مزيد من الالتصاق بأرضه الحبيبة (أرض الإسراء) وحبه المطلق للدفاع عن الوطــن السليب .
 
ولما انتشرت أعمال اللصوصية ومهاجمة البيوت الآمنة بدافع من يهود ، قرر طارق وإخوانه تشكيل مجموعات الحراسة الليلية ويبقى هو وإخوانه يتبادلون السهر على حماية الجماهير ... كل هذا النشاط المتصاعد جعل عيون سلطات الاحتلال تتفتح جيداً على طارق ليتم اعتقاله عدة مرات . فما يكاد يحرر أبو حذيفة من قيده حتى يُعاد ثانية إليه ، فأكسبته أيام المحنة هذه مزيداً من الصلابة والشدة ، كما أكسبته المزيد من المعرفة الأخوية التى كان يسعى لها طارق بكل حيوية حتى غدا شخصية مشهورة على الصعيد الشبابي في القطاع والضفة ... كما أكسبته تلك الأيام المزيد من الكفاءة في اقراض الشعر فكتــب :
                     من كتسعـــوت تحية ورســالة                               للأهـــل والأحبــاب والخـــلان
                     أوصيهمـــوا فيها بقــوة خالـــد                  وثبــات عمــــار علــى الإيمان
                     أماه لن نرضى بحكم المعتدي                             وسيحكم السلطـــان بالقـــــرآن
                     وسيحكم القرآن في كـــل الدنا                             وسندخل الفردوس والرضوان
 
وقد أنكر استخدام الشعر للانحلال والمجون من قبل الكثيرين ، فأنشد قائلاً :
                     ألا يا عيـــــون الشعــــر نامــــي                    ودعي الكـــلام ودعــي الأمانـــي
                     إني رأيت الشعر أمسى للمجـون                           وللخنــــوع وللتسالــي والغـوانــي
                     انا نريد الشعر يصـرخ في هاتفاً                            مثل القنابــــل والرصـاص الغاني
                     انا نريـــــد قوافـــيـاً شـــــعريــة                    نــوراً ونـــاراً تـحـــرق الأوثــان
 
ولما قــــــررت الحركة تشكيل خلايا لجهازها العسكــــري في كافة المواقع واختارت لهذا الجهاز خيـــــرة أبنائها ... اختارت (أبا حذيفة) ليكــــــون عضواً في خلية كتائب الشهيد عز الدين القســــام في المنطقة الوسطى ...
وتحركــــــت الخليـــة القساميـــــة الأولــــى في النصيـرات ، وكان القســـــم الأول علـى قبـــــر
(الشهيد حسين أبو يوسف) لتقطف رؤوس العملاء وبشكل أذهل كافة أبناء القطاع وذاع صيتها لما تميزت به من عملٍ راقٍ ، وتحرك دقيق حيث كان يتم خطف العميل والتحقيق معه وتسجيل كامل اعترافاته على شريط كاسيت ، وإذا كان يستحق الإعدام ينفذ فيه الحكم بعد قـرار الإفتــاء في جرائم العميل ... وتم الإفراج عن عملاء في أكثر من مرة دون إعدامهم مما جعل لكتائب القسام في منطقة النصيرات اسماً طاهراً ولا أحـد يعلم في ذلك الحين من تتبع هذه الخلية التي تتحرك بكـــل هذه الدقــة، فلا يكاد يرى أهل النصيــــرات عناصـــــر الخلية ولكنهـــــم يسمعون كل يوم عن خطف ... أو اعدام.. أو افـــــراج عن عميل بعد التحقيق معه واستتابته ... وكأن من ينفذ كل هذه الأعمال خارج الكرة الأرضية ، أو أنهم يلبسون طاقيـــة الاخفاء وقد كان (طارق القسام) يحمل في قلبه ، ولا تخفـــــي ذلك فلتات لسانه كراهته الخيانة ونبذه مرتكبيها ، وقد وجه خطابه الأول إلى الذين باعوا ضمائرهم : 
" يا خائنون قضيتي ... وهويتي ... وعقيدتي ، نهدي إليكم والسلاح هو الدليل... رصاصات الوصول ، ونعود كي (ترووا لنا) كيف السقوط ... كيف العمالة ... وعندها تتألمون ... تبكون والدمعات تهمي من عيون الحقد ... لكنه في حينها ... يأتي الندم ... لكنكم لن تفرحوا فتعقلوا اني ناصح لكم ... قبل الوصول " .

واستمر العمل ساري المفعول بكل دقة وثـقـة حتى اعتقلت سلطات الاحتلال الأخوين (مجدي حماد وصلاح العايدي) وهما يحاولان الخروج عبر الحدود المصرية ، وتم الاعتراف على الخلية القسامية التي طارق القسام أحد جنودها ...
 
ويصل الخبر (لأبي حذيفة) ويتخذ فوراً أخطر قرار في حياته - المطاردة - ، وتأكد هذا القرار حين اقتحمت قوات ضخمة من الجيش منزل (أبي أسامة دخان) الساعة الثالثة من فجر 12/1/1992م وتمت حملة تفتيش واسعة النطاق بحثاً عن (طارق) ... ولكن أين ...؟
 
أبو حذيفة يقرر عدم العودة إلى الذل خاصة وهو يعلم أن أحكاماً عالية تنتظره هذه المرة ... وتمنعه من مواصلة الكفاح بحرية وبذلك بدأت مرحلة جديدة في حياة طارق ... وقد تركت هذه المرحلة بصماتها الواضحة في طارق وشخصيته وكتاباته ... فقال فيها :
لا يا أخي ... لا تبتـئس ..
    وارفع سلاحك عالياً ... حتى نسير إلى الجهاد ...
         واعلـــم أن (كتائـــــب القســـــــام) ما ماتــت ...
             وإننـــــــا حتمـــــــــــــــاً إليكــــــــم عائــــدون ...
                 لا يا أخـــي لاتخـــــن ...
                      قدّم حياتك منحة ... حتى نسير إلى الجنـان ...
                                                     لا يا أخي ... لا تركنــــن إلى الفـــــــــراش ...
                                                           لا تعشق النوم .. حان الصحو من تيه السنين
                                                                       واعلم بأن مسيرة القسام قامت لتحي روح امتنا الدنية
     قم يا أخي ... فالحور تنتظر الشهيد ...              
                     قــــم يا أخـــــــي ...
                                     والقدس تبكي ... قم جفف الدمع الهتون        
                                                     حتى نضيـــف يداً إلى أيدي الجهــــــاد
                                                            قم يا أخي مسرى النبي يئن ... من ينقذ المسرى الحزين .
 
وبذلت قوات الاحتلال جهداً مضاعفاً في البحث عن (طارق) خاصة وأن مسئول أمن المستوطنات قتل قرب مفرق دير البلح يوم 1/1/1992م ، وكانت أصابع الاتهام الاسرائيلية تشير إلى (طارق) حتــــى آخر لحظة في تنفيذ هذا الهجـــوم القسامي الأول من نوعه في مرحلة القسام الحديث ، وترسخ هــــذا الاعتقــــــاد لدى السلطات الإسرائيليــــــة المحتلـــــة بعد إعلان (كتائــــــب القسام) مسئوليتهـــــا عن هذا الهجوم في كافة أنحاء القطاع ، بهذه المرحلة بدأ (طارق) يعتلي سلم المجد بكل سرعة وقوة حتى القمة (الشهادة) ليشق اسمه في صخر التاريخ حيث تعلو نجوم وترتبط أسماؤها بشكل جذري بطريق تخطه لدينها وترسم معالمه بنفسها ... وقليل هم أولئك الذين ترتبط أسماؤهم بالمجد الذي صنعوه ، من القلائل هؤلاء كان (طــــارق) ... فما أن تذكر (طارقاً) حتى يتبادر إلى الأذهان القســـــام ، فكان حقاً (طارق القسام) ، وكان أبرز ما يسعــــى له طارق مع إخوانــــــه في هذه المرحلة توفير كمية من السلاح لتغطي وجــــود هذا العدد من المجاهديــــــن الأفذاذ وربما كان هذا هو أبرز أسباب قرار الخروج لتوفير جزء من العدة من الخارج .
 
وكان طارق فــي هذه الفترة يشعر بقــرب اللقاء في داخلــه ، لذلك كان كل حديثه وكلماته حول
الفراق ، فيقــــول لإخوانه : " اليوم نلتقي وغــداً نفترق " " حان الفــــراق وقــــــد يكـــــــون إلــى الأبــــــــد " .
وفي زياراته القليلة لمنزله أثناء المطاردة كان يقول لأمه : إن حدث لي شئ لا تحزني فإن ما يحدث قــدر الله وما كتــــــــــب سـلفاً ...
وفي هذه الأثناء كان يعد للخروج مع مجموعـــة مـــن
المطاردين خــــارج الحــــدود بعيداً عـــن الملاحقـــة اليوميــــة ... ولجلب عدة من الخارج ...
 
وما أن اقترب يوم الفراق حتى حلّ (شهر رمضان المبارك) حيث اعتكف طارق في بداية الشهر الكريم للعبادة وكان دوماً يقف بين يدي الله تعالى يسأله الشهادة عاجلة يرفع الله بها راية الإسلام ويذل راية الكفر ... وفي ليلة 8/4/1992م اتجه طارق مع أخويه ورفيقي دربه (جلال صقر وزياد أبو مساعد) إلى الحدود المصرية لمغادرة قطاع غزة براً يتجه هناك حيث قدر الله ينتظره ... قدر الله يحمل إليه الكرامة والمحبة ... كان طارق يتجه نحو الحدود وهو يحمل في قلبه كل الحب والحنين لهذه الأرض يتمنى أن لا يتركها ولو للحظة واحدة ... يشعر أن روحه مرتبطة بكل ذرة من ذرات هذا التراب المخضب بدماء الصحابة والشهداء المجاهدين .. يتجه طارق ناحية الحدود وهو يتمنى العودة إلى حضنه الدافىء وملاذه الآمن ...
آه ما أشق الفـــــراق وما أقســــــاه وأصعبه خاصة على قلب رقيــــــق كقلب (أبو حذيقة) . وبدأ (أبو حذيفة) يسكن من لوعات نفسه وآهاتها العميقة ... وهو يتمنى العودة القريبة إلى هذه الأرض الحبيبة وأخذ ينشد :
                     عائدٌ طير الحمـــام ليغني للجنوب         وينادي يا حبيباً حل بي وهو غـريب
                     وأنا أمشي إليه رابط الجأش أسير       في يميني بندقيــة وقيــــــود وعطور
                     ومعــــــــــي حنــــــاء أمـــــــــــي             وبهـــــــا كفـــــــــي خضيـــــــــــــب
                     وغداً يا صاحبي فيه جنات وحور       وحواري حالمات ورياض وقصـور
                     عنـــــــــــــــد ربــــــي مكـرمــات           حينمــــــا اللقيـــــــــا تطيــــــــــــــب
 
لم يكن المجاهدون قد علموا حقاً طرق التعامل الآمن خاصة في ظل وجود نفر باع نفسه للشيطان ... وهذا الجهل أوقع المجاهدين في فخ الغدر حيث يفاجأون في طريق الهجرة بكمين عسكري وتحيط بهم قوات الاحتلال من كل جانب وأطلقوا عليهم الرصاص في محاولة لارهابهم وايقافهم ... توقف المجاهدون الأبطال الذين لا يحملون سوى السلاح الأبيض ولكنها عزة المؤمن تنتفض في عروق طارق الهمام  فيأبى الاستسلام ويستل خنجره وينقض كالأسد الهصور على أحفاد القردة يريد منهم قصاصاً على جرائمهم ، ويملأ قلب طارق الشعور بالظلم والاضطهاد ، ومن خلف بريق خنجره يبرز وجه طارق الغاضب على أولئك الذين باعوا دينهم وأبناء جلدتهم بثمن بخس ...
 
ولكن يعاجله الرصاص الحاقد ليسقط الجسد العظيم مدرجاً بدمائه يغسل خطيئة البشر الذين أصابوا الأرض بالرجس ... وليروي ظمأ الأرض الطاهرة إلى الدماء المسلمة الزكية ... وصعدت الروح الوثابة إلى بارئها تشكو ظلم الظالمين وتقاعس المتخاذلين فيما يعتقل رفيقيه .
 
ويخفي الاحتلال نبأ استشهاد طارق لحاجة في نفسه ، وفي فجر الجمعة 10/4/1992م استيقظ سكان النصيرات على مكبرات صوت الاحتلال تنادي بفرض حظر التجول ، وتساءل الناس فيما بينهم ... ما السبب ؟؟ ماذا حدث ؟؟
 
وتقدمت قوة عسكرية من منزل الكهل الصلب (أبو أسامة دخان) واقتادوه مع اثنين من أبنائه إلى المقبرة وأمروهما بحفر قبر لمن ؟؟؟ لا تسألوا ...
ثم حضرت قوة ثانية ومعها جثمان طلبت من الوالد وأبنائه دفنه ... رفع شقيق طارق الرداء عن الجثمان ... (طارق) يا الله نحفر قبر طارق يا قتلة يا مجرمين ، وبدأ الأخران بشتم بني يهود ومهاجمتهم بدون وعي ... فيما وقف الشيخ صامتاً مسلّماً أمره لله تعالى وهو (يردد إنا لله وإنا إليه راجعون ...الحمد لله ... اللهم اجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها) ، وأهال الإخوة التراب على شقيقهم الغالي بعد أن ألقوا عليه نظرة الوداع الأخيرة .
 
ولمّا علمت الوالدة الصابرة قالت كلمتي الحمد والصبر التى أوصى (طارق) ... (الحمد لله على نيله الشهادة ، وقالت : كنت أحثه على الدراسة لكي يصبح طبيباً ... إلاّ أن نيله الشهادة أحسن من أي شهادة أخرى) ، وكانت العائلة تعيش أشد حالات التحفز والاستنفار ...
 
وما أن انتشر الخبر الصاعق الذي ذُهل منه قطاع غزة بأسره ليلتهب بالنار والمواجهات والغضب الحقيقي ، فما من موقع إلا وحطت فيه رحال (أبي حذيفة) ، وما من منطقة إلاّ وتعرف (طارق دخان) ، ذلك الشاب صاحب المواهب المتعددة ، وما من شاب مسلم إلا وكان (أبو حذيفة) صديقـه ، فكانت أبرز معالم (طارق) كثرة التعرف على الإخوان .
 
وتحدت النصيرات منع التجول وخرجت جماهيرها تعلن المواجهات العارمة ليصاب عدد كبير من شباب النصيرات بالأعيرة النارية .
 
ويقام حفل عزاء ضخم للشهيد الغالي ويؤمه الآلاف يومياً ، وكان عرساً حقيقياً حيث نعت (جماعة الإخوان المسلمين) و(حركة المقاومة الإسلامية - حماس) و(كتائب الشهيد عز الدين القسام) أبناً من أبنائها البررة ، وجندياً من جنودها الميامين البواسل ...
 
لقد كان استشهاد (طارق) معلماً بارزاً في مسيرة القسام الحافلة ، فقد كان هذا الاستشهاد يمثل الانطلاق القسامي المدّوي في كافة أنحاء الأرض المحتلة ليسمع صداه كل العالم وربما كان هذا تحقيقاً لمعنى الفتح الذي رغبه الشيخ (أبو أسامة) حينما أطلق اسم (طارق) على وليده الجديد تيمناً بالفاتح الإسلامي (طارق بن زياد) .
 
وفي حفل العزاء تذكر الجميع طارقاً : طارقاً الفتى الهادىء الوديع ... طارقاً الصامت ... طارقاً الرياضي ... طارقاً الشاعر ... طارقاً الأديب والفنان ... طارقاً المجاهد الشهيد فيما بقي شقيقه الأصغر (محمد) صامتاً ثم نطق كلماته المزلزلة " قسماً لأثأرن لدم أخي " ، وبقي هذا القسم يتردد صداه في نفس (محمد) حتى التحق (بكتائب القسام) وجندها البواسل ليبر بقسمه ويقتل جنديين برصاص القسام الهدّار الجندي القتيل الأول كان في خليل الرحمن بتاريخ 12/12/1992م ، وهذا الحادث الذي كان أحد الأسباب لقرار الابعاد الرابيني لمئات من قيادي ومؤيدي  الحركة الإسلامية ، ومنهـــم الشيـخ المربي (عبد الفتاح دخان) والد الشهيد والأسير ،
 
والثاني في فجر ليلة القدر من رمضان 1993م في مخيم جباليا الثورة ثم يصاب (محمد) إصابة بليغة قرب مخيم النصيرات ويتم اعتقاله، ولا زال محمد خلف الأسلاك يسير على عكازين، ولكنه أطفأ نار قلبه بهذا الثأر العظيم من جند الاحتلال الذين أراقوا دم أخيه المغوار طارق القسام وأعلن لهم أن لحمنا مر وأن دماءَنا علقمٌ...
وقد كانت آخر كلمات الشهيد طارق تلك التــــى كتبها بتاريخ 8/4/1992م والتى حرص فيها على خطاب الجيل الفلسطينـــي المسلم الجيد قائلاً :
" والآن يا شعب الحجارة ، يا جيل الصمود ، يا طفل ثورتنا العظيمة ، يا أيها الأمل المجاهــــد في قلــــوب
التائهين يأتي رحيل الجبن عن
وطني لنطهر الوطن السليب ... نحتل صمتاً قادماً منها ... بلاد المستحيل ، وفجأة يتحول الصوت المخيف ... مشاعلَ ... ويتحول الدمع الحزين قنابلَ ... تبني صروح المجد في وقت الأصيل ... تأتي رصاصات الصمود تعيد للأطفال بسمتهم ... وتنشىء الشيخ الجليل ... وكتائب القسام تعلي صوتها ... بالذكر ... بالآيات .... بالترتيل ... تأتي إليهم عبر صوت الخوف ... تقتلهم ... تحتل فيهم جبنهم والخائنون سيعلمون ... عند الوصول ... بأنهم فوق الرصاص سيسقطون ...
 
وقد كانت كلمته الأخيرة واضحة في عمق الاختيار ، وفي إحد رسائله " أخي الحبيب ... إنه الجهاد ... إنه الموت في سبيل الله عز وجل ... وإنها الطريق التى اخترناها " .وبعد أن كان (طارق) يكتب الشعر كُتب فيه الشعر...
 
" يا طارق القسام ... يا فرساً توضئنا صهيله ... هيا تسرب في مسامي الأرض ... وابدأ خطاك من النصيرات أزهر اللوز لتأتي خانيونس في لياليها الجميلة ... بك يا ابن ذلك الليث تنتفض البلد ... بك شهيد القدس ضمخنا رقاب الساسة البلهاء حبلاً من مسد ... بك تستعيد الأرض جوهرها وتبقى للأبد ... هرب المناضل والزعيم وما تبقى من أحد إلاك يا ملح البلد ... إلاك يا ملح البلد .. "