الهجرة نموذج بناء الدولة

الهجرة نموذج بناء الدولة
طباعة تكبير الخط تصغير الخط

الهجرة نموذج بناء الدولة


د. محمد إبراهيم المدهون

 ‫رئيس أكاديمية الإدارة والسياسة‬


طريق النبي صلى الله عليه وسلم اللاحب الطويل كان شاقاً طويلاً ممهراً بالدم والجهاد والمقاومة والفداء والتضحية والصبر والصمود. وفي طريق الحق تتعزز سنة التدافع، وفي منهج التدافع تتعزز الحاجة للتخطيط وبناء الدولة الذي يحتاج إلى العمل والإعداد للارتقاء والصعود. وفي عالم الإدارة يُعرّفون التخطيط بأنه الإجابة على أسئلة ثلاثة: أين نحن؟ وإلى أين نريد أن نذهب؟ وكيف سنصل إلى هناك؟ ويُقسم بذلك إلى تخطيط إستراتيجي طويل المدى وتخطيط تكتيكي قصير المدى يدعم التخطيط الإستراتيجي، ويُعنى بالتفاصيل وآلية التنفيذ والوقت المتاح للإنجاز.

في الهجرة تكرست معاني التخطيط بأرقى صوره وفق أحدث مدارسه في التخطيط الاستراتيجي، من تحليل البيئة بشقيها الداخلي والخارجي بتحديد نقاط القوة والضعف والفرص والمخاطر، وهذا ما تجسد سلوكاً نبوياً سبق الهجرة بسنوات طوال، كان يتأكد خلالها للنبي  يوماً بعد يوم أن مكة لا تصلح مهداً للدعوة الوليدة وأنها تمثل تهديدًا استراتيجيًا، كانت البيئة في مكة لا تصلح لإتمام هذا الأمر؛ فمقاومة المشركين للإسلام تزداد شراسة يومًا بعد يوم، وقلوبهم "كالحجارة بل أشد قسوة".

ولذلك كان يبحث عن الخيارات البديلة فكانت الهجرة إلى الحبشة والتي مثلت في الفكر الاستراتيجي المخزون الاحتياطي والرديف المستقبلي في حال فشل الخيارات الأخرى. لذلك لم يأذن رسول الله  لأصحابه بالعودة من الحبشة إلا حين استقرت الدولة وفتحت خيبر أما الهدف الاستراتيجي الذي سعى له النبي   فهو بقعة الأرض التي تحتضن الدعوة كي يؤسس عليها الدولة ويتحقق الأمن للمؤمنين.

والهدف واضحًا، الحصول على بقعة أرض يُقام فيها مجتمع وتؤسس فيها دولة، وتنطلق منها الدعوة إلى الآفاق.
إن الأرض المنشودة في فكر النبي   الاستراتيجي لها مواصفات المنعة والاحتضان والانتماء والعروبة، لذلك طاف النبي   بالقبائل وسافر إلى الطائف بحثاً عن الهدف المنشود ثم استقر المقام على يثرب الخير. وقد جسد ذلك منهجاً تخطيطياً إدارياً في عملية اتخاذ القرار وذلك من خلال دراسة المشكلة بعد تحديدها ومن ثم تحديد البدائل ودراسة واختيار البديل الأمثل. وقد وضحت الرؤية باستجابة أهل يثرب، وبتأكد الرسول  من إخلاصهم لربهم، واستعدادهم لحمايته، وحماسهم لإقامة دولة الإسلام. فكانت يثرب هي الوجهة، وهي أنسب مكان لبناء الدولة. وهكذا فقد عرف محمد طريقه وأدرك غايته، بما أوتي من فكر ثاقب، وإستراتيجية واضحة، ومعرفة بالواقع، وخطوات محسوبة " وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ" [الأنفال : 60] ، وقبل كل ذلك تأييد من الله "وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ" [محمد : 35] ..

وانتقل النبي الأكرم   في العمل من مرحلة التخطيط الاستراتيجي إلى التخطيط للهجرة ذاتها، وانتقل أصحابه رضوان الله عليهم رويداً رويداً إلى يثرب بعد أن أرسى مصعب بن عمير  دعائم الحصن الأول للدولة، ويمثل إبقاء مصعب تجسيداً لمنهجية التخطيط السليم في الإعداد وفي التأكيد من الجاهزية للانطلاقة.

وانطلق رسول الله  في التخطيط للهجرة؛ فالهدف هو الوصول إلى يثرب بسلام كي تكتمل الصورة في مجتمع بجغرافيا ومواطنين وقيادة، ومن أجل ذلك جهز النبي  كافة الموارد المتاحة وأساس ذلك المورد البشري وكذلك الموارد المادية والمعلومات؛ فأعد النبي  فريق عمل متكامل وظفه كلٌ حسب إمكاناته ليؤدي دوره في هذه الرحلة التاريخية؛ فأبو بكر  المستشار والرفيق والناصح الأمين والوزير، وعلي  يقوم بدور التمويه بالمبيت في الفراش ورد الأمانات إلى أهلها، وعبد الله بن أبي بكر  الراصد الأمني الذي يأتي بالأخبار والمعلومات من منتديات قريش وعامر بن فهيرة يوفر الطعام ويمسح الآثار. وأسماء بنت أبي بكر تأتي بالطعام خلال أيام ثلاثة، وعبد الله بن أريقط الدليل الذي سيأتي بعد ثلاثة أيام إلى الغار ليقود الركب نحو يثرب، والأخذ بالأسباب يكتمل بالتمويه بالسفر جنوباً باتجاه اليمن والخروج من دار أبي بكر  والاختفاء أياماً ثلاث في غار ثور جنوباً.

إن الأخذ بالأسباب واعتماد التخطيط منهجاً واعداً مدرسةً لن يعقبها إلا توفيق الله تعالى ومدده ونصره فالتوكل أخذ بالأسباب وهو أيضًا إعداد وعمل وتضحية، ومعية الله بعد ذلك وقبل ذلك ومع ذلك تكون حاضرة وهكذا كانت القدرة الإلهية والمعية الربانية حاضرة في كافة تفاصيل الرحلة " وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ" [يس : 9] ، " إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ" [التوبة : 40]. وهكذا تسير هذه الثنائية في حياتنا، بين التوكل على الله "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" والأخذ بالأسباب، بين الإرادة الإلهية والإدارة البشرية، بين تدبير الإله وتفكير العبد؛ فإذا أهملنا الاعتماد على الله، وظننا أن قوتنا كفيلة بضمان تفوقنا خبنا وخسرنا، وإذا أهملنا الأخذ بالأسباب، وجلسنا في بيوتنا ندعو الله أن ينصرنا ويزلزل الأرض من تحت أعدائنا.. فلن يزيدنا الله إلا خسرانا.

"إن الرسول  ظل قلبه يخفق بدعاء الله وهو يرسم الخطط، ويضع الضمانات، ويهيئ الموارد والإمكانات الكفيلة بإيصاله إلى هدفه. لم يجئ هذا الدعاء قبل التخطيط فحسب، ولا جاء بعده فحسب؛ فليس في علاقة الإرادة البشرية بالمشيئة الإلهية خلال الحدث قبلية ولا بعدية، وإنما تسير الاثنتان في انسجام رائع؛ لأن هذه من تلك؛ ولأن الإنسان في أصغر جزئيات الحركة وفي أكبرها إنما ينفذ قَدَر الله وناموسه في الأرض في مدى الحرية التي أتيحت له.

إن الرسول  هيّأ الأسباب الكاملة لنجاح الحركة وهو ينظر إلى الله، ووضع خطواته الأولى على الدرب وهو يدعو الله، وما لبثت الأسباب أن آتت أُكُلها والخطوات أن انتهت إلى هدفها، وظل الرسول  ينظر إلى الله ويدعوه، وما أحرانا في يوم هجرته أن نتمعن في هذه التعاليم في زمن طغت فيه التفاسير والأهواء. لتتحقق النتيجة الطيبة في الوصول السالم ليضع من فوره رسولنا الأكرم  أسس الدولة الأولى؛ مسجداً ومؤاخاةً بين المؤمنين ووثيقةً تحفظ وتحدد علاقاتهم مع غيرهم.


إن هجرة نبينا  كما تاريخنا مليءٌ بالدروس العظيمة في الإدارة والتخطيط والإعداد تدفعنا أن نؤسس الدولة الأنموذج كي نرسو على شاطئ العزة والكرامة و السؤدد.